بر وبحر...علا عاشوري




منذ الأزل وتلك التناقضات تملأ الكون. هو وهي ليسا أكثر من أحد الوجوه التي طافت الأزمنة الغابرة لتستقر في زمن الثورة، زمن لا يعرف الرحمة ولا يدرك ماهية الشفقة، زمن المشاهير، زمن الشخوص لا المبادىء، حيث للأخلاق طقوس.
هو سلسلة دوامات لا متناهية، لا يكل ولا يمل، لا يكف عن الدوران جاذباً ما حوله رغماً عنه بينما يستمر هو في الدوران.
هي إعصار، لا يعترف بحدود المكان أو الزمان. تضرب بقوة، تعصف بما حولها، لا تثق بالثوابت، تكرر هجماتها بشراسة، فليس لليأس معنى في قاموسها، لن تهدأ حتى تغير معالم تلك الثوابت وتهدم ما لا يعجبها وتشكل حيث تشاء ملامح المجهول.
هو بحري الطباع وهي برية نارية. كالبحر والبر، لا يلتقيان إلا في مساحات ضيقة فيها المياه ضحلة تحتضن البر الجاف لتروي منه ظمأ السنين، تلك كانت مفارقة الأضداد، الحزن والفرح، الضعف والقوة، وأنين الحب الذي جمعهما .
حبهما كتياري ماء بارد ودافىء يجريان متجانبين إنما متعاكسان، في حركتهما الأزلية التي تخرج عن قوانين الطبيعة، فلا تفسير منطقي لكينونة ذلك الحب.
هو مل منذ زمن جمود وانجذاب العوالق والسفهاء، مل غربته الفكرية التي يعايشها منذ أمد طويل، ثار ملله وزداد صخبه ليهجر بحاره  ومحيطاته، هجرها بلا تردد وألقى بنفسه للمجهول، راح يبحث عن تجربة جديدة عن رفقاء جدد ونماذج علها تختلف. ضاقت عليه الأرض ببرها وبحرها فتجربته أكبر وأخطر وأعمق. رحل للفضاء الفسيح ليكون شهاباً لامعاً يستدل به من أضاع الطريق، أعجبه الفضاء بقوانينه وانفجارته وتقلباته، راح يتنقل من نجمة لنجمة لكن قلبه ما زال ينزف هناك عميقاً وفي رأسه سؤال يكاد يفجر شرايينه الدقيقة: هل ستسأل عنه؟
هي ضاقت ذرعاً بكل ما حولها فمنذ رحيله ضعفها بات يزداد يوماً بعد يوم حتى فقدت قدرتها وحيويتها وفقدت سطوتها، لم تعد البراري كسابق عهدها، ذوى جمالها وفارقتها بهجتها، غادرتها بعد أن تربعت على عرشها لسنوات، ودعت شطآنها وأمانها وارتحلت باحثة  عنه علها تعود ملكة كما اعتادت. جابت البحار والمحيطات وخلال ترحالها كانت تشم عبقه في كل مكان لامسه، عشقت كل ماضمه ذات يوم، ألفت كل ما تعلق به، غارت عميقاً في بحثها لتضيع ملامح موطنها شيئاً فشيئاً لتستكين بأعماق محيط بلا قرار، بأعماق محيطه.
بسكناها أعماقه جذبت بسحرها وتقلباتها الغامضة الغواصين من كل الشطآن. منهم من دفع حياته ثمناً لمغامرته تلك، ومنهم من عاد يجر أذيال الخيبة، فلا هم بديل عنه ولا هي سهلة المنال.
أحد البحارين كان يخبرها بمغامراته وفي إحداها ذكر ذلك الشهاب الذي أنقذ حياته من موت محتم، فأدركت كينونة ذلك الشهاب كيف تجهل من يحضر حتى وإن غاب. تعلق نظرها عالياً كامتداد لبحثها عنه.
ذات يوم رأته فيه ورأها تعانقا بنظرة عتاب دامت للحظة لساعة  لدهر لم تعد تذكره، فلا كلام يفي مرارة الفراق.
نظر إليها متعاليا: لم أنت هناك ولم الغوص في الأعماق؟! أ رضيت بالقاع بديلا؟!  لوى شفتيه مرارة وأسفاً لحالها ولمحة تجوب عينيه ملؤها النزق.      جرحتها نظرته وطعنتها ألاف الطعنات، والألم يذكي جرح كرامتها الثائرة. وكبرياؤها الجريح يخرس صوت إنسانيتها القتيلة: ألا يعرف حقاً لم هي هناك!!!ولمَ تخبره إذاً فالحب لا يستجدي العطف والشفقة. لن تعبأ بنظراته لها، لن ترى شفتيه المزمومتين ازدراءً لحالها.      ردت بعد أن إبتلعت علقم عباراته المسمومة بالحب: ولم أنت هناك؟! أتراك تظن المكان والزمان يغير معدن الذهب؟ ألا تعلم أن الذهب يبقى ذهباً وإن خبا بريقه؟! أتغفل أن تقادم الزمن عليه يكسبه معنى تاريخيا، يزيد من قيمته، يغير من مظهره فلا يبقى مجرد معدن ثمين! وكثيراً من يفنون أعمارهم بحثاً عنه!!!
سيدي يا حبيب الأمس ويا عابر السبيل اليوم أيغرك إرتفاعك عالياً؟! فاعلم إذاً أن كل نجم للأفول؟  وما من كوكب أضاء  يوماً حتى آل للذبول؟! وما أنت إلا شهاب ينتظر السقوط.أما أنا فسأبقى هناك أنتظر، عندها تتساوى الروؤس. فهل ستبقى على وجهك تلك الملامح؟! تململ بين نجماته والضيق يطبق على أنفاسه، بان واضحا في نظراته، حركاته وسكناته. تباً أنت من دفعني للرحيل! لم ينطقها لكنه رددها مراراً في كل نبض يسري بوريده. يلومها سراً كيف تكونين ألماً للجميعكيف تكونين ناراً ونوراً وترددين لم أرغب يوماً بالنيل من أحد ترد بصمت عالٍ، مكابرةً واقعها لست أفضل حالاً فانسحابك، بعدك، سلبيتك وغيابك أضر العديد بداخلها غبطته على عليائه فهو يرى ويدرك الحقيقة بوضوح
هو ينظر من الأعلى ليعلم لكن ليبقى بعيدا
وهي تنظر من الأسفل لتكون قريبةً قرباً يغلفه الجليد
هو أيضاً يحسدها على اليابسة التي تضمها وتدفئ منها العظم وتدفعها لتعطي المزيد
هنا فضلا أن يعودا للصمت من جديد

أدركا أن لا مجال ليجتمع كوكبين في مدار وحيد  

ليست هناك تعليقات :