تعاليم بوذا



صورة الزعيم - أساليبه - الحقائق السامية الأربع - الطريق ذو الخمس شعب - قواعد الأخلاق الخمس - بوذا والمسيح - لا أدرية بوذا ومناهضته لرجال الدين - إلحاده - علم النفس بغير نفس- معنى النرفانا


كانت وسيلة بوذا في نشر تعاليمه- شأنه في ذلك شأن سائر المعلمين في عصره- هي المحاورة والمحاضرة وضرب المثل؛ ولما لم يدر في خلده قط- كما لم يدر في خلد سقراط أو المسيح- أن يدون مذهبه، فقد لخصه في "عبارات مركزة" أريد بها أن يسهل وعيه على الذاكرة؛ وهذه المحادثات- على الصورة التي احتفظ لنا بها الرواة من أتباعه- تصور تصويراً لاشعورياً أول شخصية واضحة الحدود والمعالم في التاريخ الهندي: رجل قوى الإرادة، صادق الرواية، مزهو بنفسه، وديع المعاملة، رقيق الكلام، محسن إحساناً لا ينتهي عند حد معلوم؛ ولقد زعم لنفسه "الاستنارة" لكنه لم يدّعِ الوحي، فما زعم قط للناس أن إلهاً كان يتكلم بلسانه؛ وهو في جدله مع خصومه أكثر صبراً ومجاملة من أي معلم آخر ممن شهدت الإنسانية من أعلام المعلمين؛ ويصوره لنا أتباعه- وربما كانوا يضيفون إليه ما ليس فيه لتكمل صورته- يصورنه لنا مصطنعاً لـ "أهمسا" على أتم درجاتها (والأهمسا هي الامتناع عن قتل الكائنات الحية على اختلافها)؛ فيقولون عنه : "أن جوتاما الذي اعتزل الناس قد رفع نفسه عن الفتك بالحياة، بأن كف عن قتل الأحياء؛ لقد خلع عن نفسه الهراوة والسيف (مع أنه كان يوماً من طبقة الكشاترية- أي طبقة المقاتلين) وهو يزورُّ عن غلظة المعاملة ازوراراً، ويمتلئ قلبه بالرحمة، فهو رحيم شفوق بكل كائن تدب فيه بالحياة... وترفع عن النميمة، أو رفع نفسه عن دناءة الغيبة... هكذا كان يعيش رابطاً لما انحلت عراه، مشجعاً لدوام الصداقة بين الأصدقاء، مصلحاً ذات البين عند الخصوم، محباً للسلام، متحمساً للسلام، متحدثاً بكلمات تهيئ للسلام" ؛ لقد كان مثل "لاوتسي" ومثل "المسيح" يود أن يرد السيئة بالحسنة، والكراهية بالحب؛ وإذا أسيء إليه في النقاش أو أسيء التفاهم بينه وبين من يحاوره، آثر الصمت: "إذا أساء إلي إنسان عن حمق، فسأرد عليه بوقاية من حبي إياه حباً مخلصاً، وكلما زادني شراً، زدته خيراً" ؛ فإذا جاءه غر وإهانة، استمع إليه بوذا وهو صامت، حتى إذا ما فرغ الرجل من حديثه، سأله بوذا: "إذا رفض إنسان يا بني أن يقبل منحة تقدم إليه فمن يكون صاحبها؟" فيجيبه الرجل : "إن صاحبها عندئذ هو من قدمها"؛ فيقول له بوذا: "إني أرفض يا بني قبول إهانتك، والتمس منك أن تحفظها لنفسك". إن بوذا- على خلاف الكثرة الغالبة من القديسين- كانت له روح الفكاهة، لأنه أدرك أن البحث الميتافيزيقي بغير ضحك يصاحبه، من ضروب الكبرياء.
كانت طريقته في التعليم فريدة لا يماثلها نظير، ولو أنها مدينة بشيء "للجوالين" أو السوفسطائيين المتنقلين الذي عاصروه في بلده؛ فكان ينتقل من بلد إلى بلد، وفي صحبته تلاميذه المقربون، وفي أثره ما يقرب من ألف ومائتين من أتباعه المخلصين؛ ولم يكن أبداً يهتم لغده، فكان يكتفي بالزاد يقدمه له أحد المعجبين من سكان البلد الذي يحل فيه؛ ولقد وصم ذات يوم أتباعه بالعار، لأنه أكل في منزل امرأة فاجرة؛ كانت طريقته دائماً أن يقف السير عند مدخل قرية من القرى، ويضرب خيامه في حديقة أو غابة أو على ضفة نهر؛ وكان يخصص ساعات العصر لتأملاته، وساعات المساء للتعليم؛ وكانت محادثاته تجري في صورة سقراطية من الأسئلة وضرب الأمثلة الخلقية والتلطف في الحوار، أو كان يسوق تعاليمه في عبارات مقتضبة يرمي بها إلى تركيز آرائه تركيزاً يجعلها في صورة من الإيجاز والترتيب بحيث تقر في الأذهان؛ وأحب "عباراته التعليمية المقتضبة" إلى نفسه هي "الحقائق السامية الأربع" التي بسط فيها رأيه بأن الحياة ضرب من الألم، وأن الألم يرجع إلى الشهوة، وأن الحكمة أساسها قمع الشهوات جميعاً:
1- تلك- أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن الألم : الولادة مؤلمة، والمرض مؤلم، والشيخوخة مؤلمة، والحزن والبكاء والخيبة واليأس كلها مؤلم...
2- وتلك أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن سبب الألم : سببه الشهوة، الشهوة التي تؤدي إلى الولادة من جديد، الشهوة التي تمازجها اللذة والانغماس فيها، الشهوة التي تسعى وراء اللذائذ تتسقطها هنا وهناك، شهوة العاطفة، وشهوة الحياة، وشهوة العدم.
3- وتلك- أيها الرهبان هي الحقيقة السامية عن وقف الألم :
أن نجتث هذه الشهوة من أصولها فلا تبقى لها بقية في نفوسنا، السبيل هي الانقطاع والعزلة والخلاص وفكاك أنفسنا مما يشغلها من شئون العيش.
4- وتلك- أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن السبيل المؤدية إلى وقف الألم : إنها السبيل السامية ذات الشعب الثماني، ألا وهي: سلامة الرأي، وسلامة النية، وسلامة القول، وسلامة الفعل، وسلامة العيش، وسلامة الجهد، وسلامة ما نعني به، وسلامة التركيز.
كانت عقيدة بوذا التي يؤمن بصدقها، هي أن الألم أرجح كفة من اللذة في الحياة الإنسانية، وإذن فخير للإنسان ألا يولد؛ وهو في ذلك يقول أن ما سفح الناس من دموع لأغزر من كل ما تحتوي المحيطات العظيمة الأربعة من مياه؛ فعنده إن كل لذة تحمل سمها في طيها، لمجرد أنها لذة عابرة قصيرة: "أذلك الذي يزول ولا يقيم هو الحزن أم السرور؟ "ألقى هذا السؤال على أحد تلاميذه، فأجابه هذا بقوله: "إنه الحزن يا مولاي"؛ إذن فأس الشرور هو "تامبا"- وليس معناها الشهوة كائنة ما كانت، بل الشهوة الأنانية؛ الشهوة التي يوجهها صاحبها إلى صالح الجزء أكثر مما يريد بها صالح الكل؛ وفوق الشهوات كلها الشهوة الجنسية، لأنها تؤدي إلى التناسل الذي يطيل من سلسلة الحياة إلى ألم جديد بغير غاية مقصودة؛ وقد استنتج أحد تلاميذه من ذلك أنه- أي بوذا- بهذا الرأي يجيز الانتحار، لكن بوذا عنفه على استنتاجه ذاك، قائلاً: إن الانتحار لا خير فيه، لأن روح المنتحر- بسبب ما يشوبها من أدران- ستعود فتولد من جديد في أدوار أخرى من التقمص، حتى يتسنى لها نسيان نفسها نسياناً تاماً.
ولما طلب تلاميذه منه أن يحدد معنى الحياة السليمة في رأيه لكي يزيد الرأي وضوحاً، صاغ لهم "قواعد خلقية خمسة" يهتدون بها- وهي بمثابة الوصايا لكنها بسيطة مختصرة، غير أنها قد تكون "أشمل نطاقاً وأعسر التزاماً، مما تقتضيه الوصايا العشر" :
وأما وصاياه الخمس فهي :

1- لا يقتلن أحد كائناً حياً.

2- لا يأخذن أحد ما لم يعطه.

3- لا يقولن أحد كذباً.

4- لا يشربن أحد مسكراً.

5- لا يقمن أحد على دنس.

وترى بوذا في مواضع أخرى يضيف إلى تعاليمه عناصر يتسلف بها تعاليم المسيح على نحو يدعو إلى العجب: "على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالشفقة، وأن يزيل الشر بالخير... إن النصر يولد المقت لأن المهزوم في شقاء... إن الكراهية يستحيل عليها في هذه الدنيا أن تزول بكراهية مثلها، إنما تزول الكراهية بالحب". وهو كالمسيح لم يكن يطمئن نفساً في حضرة النساء، وتردد كثيراً قبل أن يسمح لهن بالانضمام إلى الطائفة البوذية؛ ولقد سأله تلميذه المقرب "أناندا" ذات يوم:

"كيف ينبغي لنا يا مولاي أن نسلك إزاء النساء؟".

"كما لو لم تكن قد رأيتهن يا أناندا".

"لكن ماذا نصنع لو تحتمت علينا رؤيتهن؟".

"لا تتحدث إليهن يا أناندا"

"لكن إذا ما تحدثن إلينا يا مولاي فماذا نصنع؟"

"كن منهن على حذر تام يا أناندا"

كانت فكرته عن الدين خلقية خالصة؛ فكان كل ما يعنيه سلوك الناس، وأما الطقوس وأما شعائر العبادة، وما وراء الطبيعة واللاهوت، فكلها عنده لا تستحق النظر؛ وحدث ذات يوم أن هم برهمي بتطهير نفسه من خطاياها باستحمامه في "جايا" ، فقال له بوذا: "استحم هنا، نعم هاهنا ولا حاجة بك إلى السفر إلى جايا أيها البرهمي؛ كن رحيماً بالكائنات جميعاً؛ فإذا أنت لم تنطق كذباً، وإذا أنت لم تقتل روحاً، وإذا أنت لم تأخذ ما لم يعط لك، ولبثت آمناً في حدود إنكارك لذاتك- فماذا تجني من الذهاب إلى "جايا"؟ إن كل ماء يكون لك عندئذ كأنه جايا"، إنك لن تجد في تاريخ الديانات ما هو أغرب من بوذا يؤسس ديانة عالمية، ومع ذلك يأبى أن يدخل في نقاش عن الأبدية والخلود والله؛ فاللانهائي أسطورة- كما يقول- وخرافة من خرافة الفلاسفة، الذين ليس لديهم من التواضع ما يعترفون به بأن الذرة يستحيل عليها أن تفهم الكون؛ وإنه ليبتسم ساخراً من المحاورة في موضوع نهائية الكون أو لا نهائيته؛ كأنما هو قد تسلف بنظره إذ ذاك ما يدور بين علماء الطبيعة والرياضيات اليوم من مناقشة حول الموضوع مناقشة ما أقربها من حديث الأساطير؛ لقد رفض أن يبدي رأياً عما إذا كان للعالم بداية أو نهاية، أو إذا كانت النفس هي البدن أو شيئاً متميزاً منه، أو إذا كان في الجنة ثواب للناس حتى أقدس القديسين من بينهم؛ وهو يسمي هذه المشكلات "غاية التأمل النظري وصحراءه وبهلوانه والتواءه وتعقيده" ويعتزم ألا يكون له شأن بأمثال هذه المسائل، فهي لا تؤدي بالباحثين فيها إلا إلى الخصومة الحادة، والكراهية الشخصية والحزن؛ ويستحيل أن تؤدي بهم إلى حكمة أو سلام؛ إن القدسية والرضى لا يكونان في معرفة الكون والله، وإنما يكونان في العيش الذي ينكر فيه الإنسان ذاته، ويبسط كفه للناس إحسانا؛ ثم يضيف إلى ذلك تهكماً بشعاً فيقول أن الآلهة أنفسهم، لو كان لهم وجود، لما كان في وسعهم أن يجيبوا عن أمثال هذه المسائل.
حدث ذات مرة يا "كفاذا" أن طاف الشك بزميل من طائفة الزملاء هذه، حول النقطة الآتية : "أين تمضي هذه العناصر الأربعة الكبرى : التراب والماء والنار والهواء، بحيث لا تترك وراءها أثرا؟" وجعل ذلك الزميل يقدح زناد عقله حتى أخذته حالة من الوجد اتضحت له معها السبيل المؤدية إلى الله.
وعندئذ يا "كفاذا" صعد هذا الزميل إلى مملكة الملوك الأربعة الكبار، وخاطب آلهتهم قائلاً : "أين يا أصدقائي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟"
فلما أن فرغ من سؤاله هذا، أجابه آلهة في سماء الملوك الأربعة الكبار: "إننا يا أخانا لا ندري من ذلك شيئاً، لكن هنالك الملوك الأربعة الكبار، هم أقوى منا وأعظم، سلهم يجيبوك".
وعندئذ يا "كفاذا" ذهب ذلك الزميل إلى الملوك الأربعة وسأل نفس السؤال فأحيل بمثل ذلك الجواب إلى "الثلاثة والثلاثين" الذي أحالوه بدورهم إلى ملكهم "ساكا" الذي أحاله إلى آلهة "ياما" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سوياما" الذي أحاله إلى آلهة "توسيتا" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سانتوسيتا" ، الذي أحاله إلى آلهة "نمانا- رتى" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سوني ميتا" الذي أحاله إلى آلهة "بارانيميتا فاسافاتى" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "فاسافاتى" الذي أحاله إلى آلهة العالم البرهمي).
وبعدئذ يا "كفاذا" جعل ذلك الزميل يركز تفكيره في نفسه تركيزاً استنفذ كل ذرة من انتباهه، وانتهى به ذلك التفكير المركز إلى شهوده بعقله الذي أمسك هكذا بزمامه، طريق العالم البرهمي واضحاً؛ فدنا من الآلهة التي تتألف منها حاشية براهما، وقال : "أين يا أصدقائي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟".
"فلما فرغ من سؤاله أجابته الآلهة التي تؤلف حاشية براهما قائلاً: "إننا يا أخانا لا ندري من ذلك شيئاً، لكن هنالك براهما، براهما العظيم، الواحد العلي، الواحد القدير، الواحد البصير، من بيده الأمر وله التدبير في جميع الشئون، فهو ضابط كل شئ وخالق كل شئ وسيد كل شئ ... هو السابق للزمان، وهو والد كل ما هو كائن وكل ما سيكون! إنه أقوى منا وأعظم، سله يجبك".
"أين إذن هذا البراهما العظيم؟".
"إننا يا أخانا لا ندري أين يكون براهما، ولا لماذا كان ولا من أين جاء؛ ولكن يا أخانا إذا ما بدت لنا بوادر مجيئه، إذا ما أشرق الضوء وسطع المجد، عندئذ سيبتدي للناظرين، لأن بادرة ظهور براهما هي إشراق الضوء وسطوح المجد".
ولم يمض طويل وقت بعد ذاك يا "كفاذا" حتى تبدى براهما العظيم، فدنا منه أخونا ذاك وسأله: "أين يا صديقي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟".
فما فرغ من سؤاله أجابه براهما العظيم: "أنا يا أخي براهما العظيم العلي القوي البصير، بيدي الأمر والتدبير في كل شئ، وأنا ضابط كل شئ وخالق كل شئ وسيد كل شئ، أعين لكل شئ مكانه، أنا السابق للزمان ووالد كل ما هو كائن وكل ما سيكون!".
عندئذ أجاب الأخ براهما قائلاً: "أنا لم أسألك يا صديقي هل أنت حقاً كل هذا الذي ذكرت من صفات، لكني سألتك أين تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثراً؟".
فأجابه براهما نفس الجواب مرة أخرى يا "كفاذا".
وأعاد أخونا سؤاله للمرة الثالثة إلى براهما.
فأخذ براهما العظيم- يا "كفاذا"- أخانا ذاك ونحاه جانباً وقال:
"إن هذه الآلهة التي منها تتألف حاشية براهما، تعتقد أني- يا أخي- أرى كل شئ وأعلم كل شئ وأتبين حقيقة كل شئ؛ ولهذا لم أجبك في حضرتهم؛ ولكنني، أيها الأخ، لست أدري أين تذهب هذه العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثراً.
فإذا ما قال لبوذا بعض تلاميذه، إن البراهمة يزعمون الإلمام بحلول هذه المسائل، أجابهم بوذا ساخراً: "هنالك يا إخواني بعض الرهبان وبعض البراهمة يتلوون مثل ثعابين الماء، فإذا ما ألقيت عليهم سؤالاً في هذا الموضوع أو ذاك، عمدوا إلى غموض القول، وإلى تلوي الثعابين"؛ ولو بدت من بوذا حدة إزاء أحد إطلاقاً، فإنما كان حاداً تجاه كهنة عصره، فهو يهزأ بدعواهم أن أسفار الفيدا من وحي الإله، ويفضح البراهمة المعتزين بطبقتهم بقبوله في طائفته أعضاء الطوائف جميعاً بغير تفريق؛ إنه لا يهاجم نظام الطبقات مهاجمة صريحة، لكنه يقول لتلاميذه في وضوح وجلاء: "انتشروا في الأرض كلها وانشروا هذه العقيدة؛ قولوا للناس إن الفقراء والمساكين، والأغنياء والأعيان، كلهم سواء، وكل الطبقات في رأي هذه العقيدة الدينية تتحد لتفعل فعل الأنهار تصب كلها في البحر"، وهو يرفض الأخذ بفكرة التضحية في سبيل الآلهة، ويفزع أشد الفزع لرؤية الحيوان يذبحونه ليقيموا أمثال هذه الطقوس؛ ويرفض كل اعتقاد وكل عبادة لكائنات أعلى من هذه الطبيعة، ويربأ بنفسه عن التعزيم والرقى والتقشف والدعاء، ويقدم للناس في هدوء وبغير محاجة ولجاج ديناً حراً أكمل الحرية من جمود الفكر ومن صناعة الكهنوت، ويفتتح طريقاً للخلاص، للكافرين والمؤمنين أن يسلكوه على السواء.
وقد يتحول هذا القديس أحياناً، الذي هو أشهر من عرف الدهر من قديسي الهندوس، قد يتحول من اللا أدرية إلى إلحاد صريح ؛ إنه لا ينحرف عن جادته لينكر وجود الله، بل إنه حيناً بعد حين يذكر براهما كأنما هو حقيقة واقعة أكثر منه مثلاً أعلى ثم هو لا يحرم عبادة الآلهة الشائعة بين الناس لكنه يسخر من فكرة إرسال الدعوات إلى "المجهول" ، وفي ذلك يقول "إنه لمن الحمق أن تظن أن سواك يستطيع أن يكون سبباً في سعادتك أو شقائك لأن السعادة والشقاء دائماً نتيجة سلوكنا نحن وشهواتنا نحن؛ وهو يأبى أن يبني تشريعه الخلقي على عقوبات تفرضها قوة وراء الطبيعة، كائنة ما كانت تلك العقوبات، ولا يجعل جزءاً من عقيدته جنة ولا مطهراً ولا جحيماً؛ وهو أرهف حساسية للألم والقتل الذي ينزل بالكائنات الحية بحكم العملية البيولوجية في الحياة، من أن يفرض أن هذا القتل وذاك الألم قد أرادهما إله مشخص إرادة عن عمد وتدبير، وهو يرى أن هذه الأغلاط في نظام الكون ترجح ما فيه من آيات تدل على تدبير وتنسيق؛ إنه لا يرى على هذا المسرح الذي تمتزج فيه الفوضى والنظام، والخير والشر، مبدأ ينم عن الدوام، ولا مركزاً لحقيقة أبدية خالدة، وكل ما يراه في الحياة دوامة تدور وحركة ما تنفك في تغير؛ إن الحقيقة الميتافيزيقية النهائية في هذه الحياة هي التغير.
وكما أنه يقترح لاهوتاً بغير إله، فكذلك يقدم لنا علم النفس بغير النفس؛ فهو يرفض الروحانية في شتى صورها حتى في حالة الإنسان؛ وهو يوافق هرقليطس وبرجسن في رأيهما عن العالم، كما يوافق هيوم في رأيه عن العقل، فكل ما نعرفه هو إحساساتنا، وإذن، فإلى الحد الذي نستطيع أن نبلغه بعلمنا، لا نرى سوى أن المادة كلها ضرب من القوة، والعناصر كلها نوع من الحركة، الحياة تغير، هي مجرى دافق محايد من صيرورة وفناء؛ إن "الروح" أسطورة من الأساطير، فرضناها بغير مبرر يؤديها، لنريح بهذا الفرض أذهاننا الضعيفة، فرضناها قائمة وراء سلسلة الحالات الشعورية المتعاقبة إن هذا "الرابط الذي يربط المدركات دون أن يكون واحداً منها" ، هذا "العقل" الذي ينسج خيوط إحساساتنا وإدراكاتنا في نسيج من الفكر، إن هو إلا شبح توهمناه؛ وكل ما هو موجود حقاً هو الإحساسات نفسها والإدراكات نفسها، تتكون بصورة آلية في هيئة تذكرات وأفكار؛ حتى هذه "الذات" النفسية ليست كائناً قائماً بذاته متميزاً من سلسلة الحالات العقلية؛ ليست الذات سوى استمرار هذه الحالات، وتذكر الحالات اللاحقة للحالات السابقة، مضافاً إلى ذلك ما يتعوده الجسم العضوي من عادات عقلية وسلوكية، وما يتكون لديه من ميول واتجاهات؛ إن تعاقب هذه الحالات لا تسببه "إرادة" أسطورية تضاف إليها من أعلى، بل تقررها الوراثة والعادة والبيئة والظروف فهذا العقل السائل الذي لا يعدو أن يكون مجموعة من حالات عقلية، هذه النفس أو هذه الذات التي ليست إلا ميلاً نحو سلوك معين أو هوى إلى اتجاه بذاته، كونته الوراثة التي لا حول لها ولا قوة، كما كونته كذلك الخبرة العابرة خلال تجارب الحياة، أقول إن هذه النفس أو هذه الذات أو هذا العقل يستحيل أن ينطبق عليه معنى الخلود، إذا فهمنا من هذا المعنى استمرار الفرد في وجوده فليس القديس، بل ليس بوذا نفسه بخالد بعد موته خلوداً يحفظه بشخصه.
ولكن إن كان ذلك كذلك، فكيف يمكن أن يعود الحي إلى الحياة من جديد في ولادة ثانية؟ إذا لم يكن هناك روح، فما الذي يتقمص أجساداً أخرى في ولادات تالية، ليلقي عذابه على خطاياه إذ هو حال في صورة الجسد؟ تلك هي أضعف الجوانب في فلسفة بوذا، فهو لا يحاول أبدا أن يزيل التناقص الكائن بين علم نفسه العقلي وبين قبوله لمذهب التقمص قبولاً أعمى؛ إن هذا الإيمان بحقيقة التناسخ أو تقمص الروح في أجساد متتالية، له في الهند قوة وشمول بحيث يعتنقه كل هندوسي على أنه بديهية أو فرض لا بد من التسليم بصحته، ولا يكاد يكلف نفسه عناء التدليل عليه؛ فتعاقب الأجيال هناك تعاقباً سريعاً متلاحقاً بسبب قصر الأعمار وكثرة النسل، يوحي إلى الإنسان إيحاء لا يستطيع أن يفر منه، بأن القوة الحيوية تنتقل من جسد إلى جسد- أو بأن الروح تحل بدناً بعد بدن، إذا عبرنا عن الأمر بعبارة لاهوتيه -؛ ولقد طافت الفكرة برأس بوذا مع مر الهواء في أنفاسه؛ فهذا الهواء يدخل شهيقاً ويخرج زفيراً هو الحقيقة الواحدة التي لم يشك فيها قط على ما يبدو؛ إنه سلم تسليماً بعجلة التناسخ في دورانها وبقانون "كارما" وتفكيره كله إنما يدور حول سبيل الفرار من هذه العجلة الدوارة، كيف يمكن للإنسان أن يحقق لنفسه النرفانا في هذه الحياة الدنيا، والفناء التام في الحياة الآخرة.
ولكن ما "النرفانا"؟ أنه من العسير أن تجد لهذا السؤال جواباً خاطئاً، لأن الزعيم قد ترك الموضوع غامضاً، فجاء أتباعه وفسروا الكلمة بكل ما يستطيع أن يقع تحت الشمس من ضروب التفسير؛ فالكلمة في السنسكريتية بصفة إجمالية معناها " منطفئ "كما ينطفئ المصباح أو تنطفئ النار؛ أما الكتب البوذية المقدسة فتستعملها بمعان : حالة من السعادة يبلغها الإنسان في هذه الحياة باقتلاعه لكل شهواته الجسدية اقتلاعاً تاماً؛  تحرير الفرد من عودته إلى الحياة؛  انعدام شعور الفرد بفرديته؛  اتحاد الفرد بإلهه؛  فردوس من السعادة بعد الموت؛ أما الكلمة في تعاليم بوذا فمعناها فيما يظهر إخماد شهوات الفرد كلها، وما يترتب على ذلك الإنكار للذات من ثواب وأعني به الفرار من العودة إلى الحياة؛ وأما في الأدب البوذي، فكثيراً ما تتخذ الكلمة معنى دنيوياً، إذ يوصف القديس في هذا الأدب مراراً بأنه اصطنع النرفانا في حياته الدنيا، بجمعه لمقوماتها السبعة وهي: السيطرة على النفس، والبحث عن الحقيقة، والنشاط، والهدوء، والغبطة، والتركيز، وعلو النفس؛ تلك هي مكنونات النرفاثا، لكنها تكاد لا تكون عواملها التي تسبب وجودها، أما العامل المسبب لوجودها، والمصدر الذي تنبثق عنه النرفانا، فهو إخماد الشهوة الجسدية؛ وعلى ذلك تتخذ كلمة "نرفانا" في معظم النصوص معنى السكينة التي لا يشوبها ألم، والتي يثاب بها المرء على إعدام نفسه إعداماً خلقياً؛ يقول بوذا : "والآن فهذه هي الحقيقة السامية عن زوال الألم ؛ إنه في الحق فناء المرء حتى لا تعود له عاطفة تشتهي، إنه إطّراح هذا الظمأ اللاهث، والتخلص منه والتحرر من ربقته، ونبذه من نفوسنا نبذاً لا عودة له"وأعني به هذه الحمى التي تنتابنا من شهوتنا في البحث عن أنفسنا؛ إن كلمة "نرفانا" في تعاليم الأستاذ الزعيم تكاد دائماً ترادف في معناها كلمة نعيم  وهو رضى النفس رضى هادئاً بحيث لا يعنيها بعدئذ أمر نفسها؛ لكن النرفاثا الكاملة تقتضي العدم : وإذن فثواب التقوى في أسمى منازلها هو ألا يعود التقي إلى الحياة.

ويقول بوذا إننا في نهاية الأمر ندرك ما في الفردية النفسية والخلقية من سخف؛ إن نفوسنا المضطرمة ليست في حقيقة الأمر كائنات وقوى مستقلاً بعضها عن بعض، لكنها موجات عابرة على مجرى الحياة الدافق؛ إنها عقد صغيرة تتكون وتتكشف في شبكة القدر حين تنشرها الريح؛ فإذا ما نظرنا إلى أنفسنا نظرتنا إلى أجزاء من كل، وإذا ما أصلحنا أنفسنا وشهواتنا إصلاحاً يقتضيه الكل، عندئذ لا تعود أشخاصنا بما ينتابها من خيبة أمل أو هزيمة، وما يعتورها من مختلف الآلام من موت لا مهرب منه ولا مفر، لا تعود هذه الأشخاص تحزننا حزناً مريراً كما كانت تفعل بنا من قبل؛ عندئذ تفنى هذه الأشخاص في خضم اللانهاية؛ إننا إذا ما تعلمنا أن نستبدل بحبنا لأنفسنا حباً للناس جميعاً وللأحياء جميعاً، عندئذ ننعم آخر الأمر بما ننشد من هدوء.

ليست هناك تعليقات :