الرابعة صباحاً




الرابعةُ صباحاً، بقلم يوسف ماجد نايف

أحمد - في الأربعين من عمره، رسام
الحبيبة - في الثلاثين من عمرها، حبيبة أحمد
صوت الضمير
صوت القاضي

كلمات: قلبُ مجرمة*
الموتُ ينتظرُ انتشالي
وهُنا يُحيِّرُني سؤالي
ماذا أردْتُ؟ وهل وصلتُ
إلى النتيجةِ أو مآلي؟
عاديَّةً كنتُ، اختَصَرْتُ
بساطتي قبل الزوالِ
قبل انزوائي كالندى
وحدي، وكأسُ الحبِّ خالِ
من أينَ جئتَ؟ وأينَ كنتَ؟
فأنتَ تُنسيني مقالي
هلَّا عطَفْتَ ولو قليلاً،
مرَّةً.. رفقاً بحالي

*هذه هي الكلمات المفهومة للقصيدة، مقارنة مع العبارات التي ستسخدمها الحبيبة عندما تُغني. تُغنَّى الأغنية بصوت الحبيبة قبل المسرحية وبعدها.

[المكان مليء بلوحات عليها رسمات مُغطاةٌ لوجه الحبيبة. بعض الوجوه في الرسمات مُشوهة وبعضها واضحة المعالم. يُسمَع صوتُ منبِّه في الظلام. تنهض الحبيبة من نومها في ثوبٍ أبيض عليه بقعة دم حمراء كبيرة [على مكان القلب] وحبل مشنقة حول رقبتها. تُوقِفُ رنين المُنبه الموضوع على منضدة صغيرة بجانب السرير. ترتبُ الحبيبة غرفة الفندق بوجه مشرق كأنها سعيدةٌ لأمر ما أو لوجود شخص معها. ترتب أولاً السرير (إلى يمين الممثلين على المسرح)، ثم المكتب الخالي (في منتصف المسرح)، والكرسي (الموضوع أمام المكتب)، والكرسيَّين والكتب التي وُضعتْ على طاولة (على يسارها). تختار الحبيبة رواية رومانسية على المكتب وتقرأها بنهم. بعد فترة قصيرة تضحك بخجل، ثم تنظر إلى الجمهور كأنها لاحظَتْ وجوده الآن. تقوم من مكانها صعِقَةً ويقع الكتاب منها. ثم يُسمَعُ صوتُ موسيقى فتبتسم وتتمايل قليلاً، وتغني الحبيبة بصوتٍ شجيٍّ وَجِلٍ هذه الكلمات الغير مفهومة على ذاتِ اللحن الذي ابتدأَتْ به المسرحية. بينما الحبيبة مندمجة في الغناء والرقص، يدخل أحمد المسرح خلسة في أية لحظة خلال غنائها ويقف في مكانه وراء ستار شفاف حتى تنتهي الحبيبة من الغناء.]

الحبيبة:
أبَّوْتُ يَتَّدِدُ اتِّهالي
وُهُتا يُهيِّدُتي تُؤالي
بادا أدَدْتُ؟ وُهِل وَتَلْتُ
ألا البَتِيتةِ أُو بَآلي؟
إيديَّةً كُبَّتْ، كَدَدْتُّ
بَكاتَتِي كِبلَ الدُّوالي
كِبلَ الدُّوائي كَدَّدَى
وُهْدِي، وُكَأْتُ الهُبِّ كالِ
بِتْ أَيْتَ كِيتَ؟ وُأيتَ كُبْتَ؟
بَأَبْتَ تُبتِيتِي مِكالي
هِلَّا أتَبْتَ وُلُوْ كِليلا،
بَدَّةً.. دِبكا بَهالي

[لا تلاحظ الحبيبة وجود أحمد إلا بعد ظهوره من وراء الستار وهو يصفق ببطء. عندها تخطو الحبيبة إليه بثبات كأنها رأت ملاكاً وتريد لمسه، فتمد يدها إليه لكنها تقبضها مسرعة من الخجل وتُمسك معصمها. تمشي الحبيبة ناحية الجمهور مبتسمةً وتقف دون حَراكٍ، سعيدةً بوجود أحمد وعطره الفائح ورائحة جلده التي تعرفها تماماً كيديها. تمد ذراعيها أمامها وتنظر إلى يديها الجميلتين ريثما أحمد يقترب منها. يُسمع صوت أغنية رومانسية فيها صوت آلة الساكسيفون عندما يفك أحمد عُقدة حبل المشنقة التي على رقبة حبيبته. تشعر حبيبة أحمد بالراحة وهو يُغطي كتفيها وظهرها ببذلته الأنيقة. يُمسكان بأيدي بعضهما البعض ويبتسمان طويلاً. تفرك حبيبتُه عينيها. يمشي أحمد معها إلى السرير، فتدخُل الحبيبة تحت الغطاء ويخلدُها إلى النوم بأغنية (عصفور طل من الشباك) ، تضحك حبيبته في البداية لكنها تهدأ رويداً رويداً وتنام.]

صوت الضمير: (بصوته الحازم الشديد) هل نامت؟
أحمد: (وهو ينظر إليها) نعم. نامت.
الضمير: وأنت يا أحمد؟
أحمد: ماذا عني؟
الضمير: ماذا ستفعل؟
أحمد: (صمت. ينظر إلى الجمهور) سأرسمها..
الضمير: مجنون.
أحمد: فَلأكُن مجنونا. إني لا أملكُ سواها.
الضمير: وزوجتك؟
أحمد: لا تُذكِّرني!
الضمير: إنها خائفة عليك كثيراً. هي لم تنم منذ--
أحمد: (مُقاطعا) كفى!
الضمير: (صمت) كما تشاء.
أحمد: أرجوك، لا تُذكِّرني بما حصل لي قبل حبيبتي.
الضمير: معتوه.
أحمد: نعم.
الضمير: أحمق!
أحمد: نعم.
الضمير: مُغفل!
أحمد: قل ما تشاء!! لا أحد يستطيع إيقافي.
الضمير: هل ستقتلها؟
أحمد: (صمت) ربما لا.
الضمير: حاولَتْ أن تنتحر.
أحمد: حمداً لله أنها بخير.
الضمير: جسمها بخير، لكنْ عقلُها ليس معها.
أحمد: (ناظراً إليها) إنها حسناء..
الضمير: نعم، ولكنكَ لن تستطيعَ أن..
أحمد: (كأنه لا يسمع الضمير) ... سأرسمها..!

[بابتسامة عريضة وحماس، يأخذ أحمد لوحة لم تكتمل بجانب المكتب ويضعها على حامل خشبيٍّ بجانب حبيبته كي يشرَعَ بالرسم. قبل أول خط يرسمه، يتوقف أحمد. يضع الفرشاة جانباً.]

الضمير: ما بك يا أحمد؟
أحمد: (ينظر أحمد إلى الضمير بغضب) إنك شيطان..! (يُهدده مشيراً إليه بسبابته، بغضب أشد) أنت شيطان!!
الضمير: لا أعتقد هذا.
أحمد: اتركني! أريد أن أحيا...
الضمير: (باستهتار) أن تحيا...؟
أحمد: نعم.. لقد ضيَّعتَ من عمري أكثر من عشرين عاماً وحان الوقت لأن أعيش حياتي.
الضمير: هكذا؟ بهذه الطريقة؟
أحمد: نعم، هكذا. وما شأنُك؟
الضمير: لن تستطيع أن تعيش من دوني.
أحمد: ها! هذا ما تظنه أنت.
الضمير: لقد استحوذ على عقلك شيطان يا أحمد.
أحمد: لا يهمني. لا يهمني أحد. اذهب...
الضمير: ستندم.
أحمد: (ينظر إلى الضمير) اتركني وشأني! لا تعُد إليَّ أبداً. اذهب... اذهب، اذهب!
الضمير: حسناً. لكن تأكد أنك ستندم كثيراً.

[يُسمع صوت رياح - صوت اختفاء الضمير-. يبتسم أحمد كأن عبءًا ثقيلاً قد سقط عن كتفيه.]

أحمد: هكذا أريدُكِ يا حياة، ضعيفةً وهِنة. (يمشي إلى حبيبته النائمة بسَكينة وهدوء على السرير، يجلس بجانبها ويُداعب خُصلات شعرها.) كم كنتُ غبياً. كيف لم أُلاحظ قُوتي وقُدراتي وصلابةَ شخصيتي؟ (لحبيبته) لستِ أجمل امرأة في الدنيا. لا يهمني الجمال. أعرف أنكِ تُحبينني جداً. أما أنا؟ أنا؟! (يضحك ضحكة فيها خبث) فأنا أحبكِ بجنون. أتعرفين ما هو الجنون يا حبيبتي؟ سأخبرك. الجنون... هو قَدَرُ العظماء. ونحن يا حبيبتي من العظماء. صدِّقيني..! ربما حالتُكِ النفسية العابرة هذه لا تُعينُك على فَهم كلامي، وأنا أقدِّرُ موقفك وظروفك تماماً. أتذكرين حبيبتي؟ أتذكرين ما جرى في الماضي؟ ... سأُذكِّركِ. (ينتقل أحمد إلى  وسط المسرح ويجلس على الكرسي أمام المكتب)
كنت مُستلقياً. أظن أنه كان حُلْماً. لستُ متأكداً إلى الآن. لأن الأحلام لا تتركُ وقعاً بهذه القوة على الإنسان. لا أعرف. لكنني أذكرُ جيداً رؤيةَ ملابسٍ تسقط، وعينان تنظران إليَّ، وأذكر صوت آلةٍ موسيقية هندية من بعيد. ورائحة البنفسج أيضاً وهي تغتالُني. ثم شعرْتُ بشيءٍ يسحب قدميَّ إلى ما يُشبه جنة عظيمة من بعدها جحيم، فقاومْتُ وقاومتُ! خطفتُ نظرة إلى الساعة! كانت الرابعة صباحاً. قاومتُ أكثر وأكثر وذلك الشيء يشدني ويشدني! ثم فتحتُ عينيَّ جيداً. لم يكن المنبه بجانبي حينها. استقمْتُ. جلستُ على جانب السرير. نظرتُ إلى جهاز التكييف. كدتُ أبكي. لأول مرة منذ خمسة عشر عاماً شعرتُ برغبة شديدة بالبكاء. كانت زوجتي نائمة، مثلكِ تمامًا. لم تشعُر بشيء على الإطلاق. لأول مرة، نظرتُ إليها وكأنها شخص لا أعرفه. شعرتُ ببركان في صدري يكادُ يُفجِّر حِمَمهُ من رأسي. تساءلتُ: لماذا تزوجتُها؟ ولم أجد جواباً مُقنعاً. لم أجد سبباً واحداً لأبقى معها. توقف الوقتُ تمامًا. شعرتُ بخيبةٍ عظيمة ومرارةٍ في حلقي. مشيتُ في الغرفة تائهاً، جعلتُ أتلمس الحوائط، كأنني طفل لم ير مثلها من قبل. طفلٌ لم يعرف معنى الحب بعدُ.

(تستيقظ الحبيبة من نومها بشكل طبيعي لكنها لا تنظر نحو أحمد. تقوم من السرير وتأخذ سيجارة من علبة على المنضدة بجانبها ثم تُشعل سيجارتها أمام الجمهور وتنفث الدخان إلى يمينها. يفعل أحمد ذات الشيء، في الوقت ذاته، نافثاً الدخان إلى يساره. يتحدثان إلى نفسيهما دون وجود أي فراغات ما بين صوتيهما.)

أحمد: لا أحد الآن في حياتي.
الحبيبة: (ناظرة نحو الجمهور) كان يستحق الموت.
أحمد: ماذا أفعل؟
الحبيبة: ذلك المعتوه.
أحمد: وَحدةٌ غريبة جداً.
الحبيبة: أظن أن هذه آخر سيجارة في حياتي.
أحمد: لا بد من حل.
الحبيبة وأحمد: (معاً) لكن ... كيف؟

(بعد صمت قصير، ينظران إلى بعضهما البعض كأنهما صديقان تلاقيا أخيراً بعد عشر سنوات. يخطوان إلى بعضهما البعض ويلتقيان في منتصف المسرح.)

أحمد: أنتِ هي إذن.
الحبيبة: من تقصد؟
أحمد: حبيبتي.
الحبيبة: (بابتسامة) ربما... ما اسمُك؟
أحمد: أحمد.
الحبيبة: هل تعرفُني من قبل؟
أحمد: لا.
الحبيبة: إذن كيف أحببتَني؟
أحمد: مجرد شعور، كالحاسة السادسة.
الحبيبة: أنت تُومن بالحب من أول نظرة إذن.
أحمد: يمكنكِ أن تقولي ذلك.
الحبيبة: شخصيتُك جذابة... جداً.
أحمد: (يبتسم) لم أكن هكذا دائماً.
الحبيبة: حقاً؟ ظننتُ أن الجاذبية لا تُكتَسب مع مرور الزمن.
أحمد: ربما. لكني أؤمن بأن الإنسان يستطيع أن يتحسن ويتطور، في كل أمورِ حياته.
الحبيبة: تُعجبُني رؤيتُك الصادقة.

(يبتسمان لبعضهما البعض. يرمي كل منهما سيجارته على الأرض ويدوس عليها بالقدم اليسار. ثم يمد أحمد لها يده فتمسكها ويخطوان إلى الجمهور وهما ينظران إلى بعضهما البعض. يجلسان على طرف المسرح، في المنتصف.)

أحمد: ألن تُفصحي عن اسمِك؟
الحبيبة: لا.
أحمد: إذن فسوف أسميكِ حبيبتي.
الحبيبة: (مبتسمة) كما تشاء.
أحمد: ولن يحُلَّ أحدٌ محلَّكِ أبداً.
الحبيبة: أشعر بأنك كاذب.
أحمد: أنا لا أكذب على نفسي، وبالتالي فأنا لا أكذب عليكِ. (تُشيح الحبيبة بوجهها) دعكِ من هذا. أخبريني عنكِ.
الحبيبة: (كأنها استفاقت من حلم، تنظر إليه مُستغربة) أنا؟
أحمد: نعم أنتِ. أنا رسام، وماذا عنكِ؟
الحبيبة: ألستَ محامياً؟
أحمد: لا. قد استقلتُ من وظيفتي منذ أسبوعين.
الحبيبة: (مُتفكرة) حقاً؟
أحمد: نعم. أصبحتُ متفرغاً للرسم، ولكِ أنتِ أيضاً.
الحبيبة: إذن فالرسم أهم مني.
أحمد: لا تُدققي هكذا. سأرسمكِ أنتِ.. أنتِ فقط. لقد فُتِّحَتْ عينايَ أخيراً، صدقيني. إني أرى العالمَ بمنظورٍ جديد. ألوانُهُ تزدادُ ألَقاً، كأنها تتلألأ كبِلَّورات. أصبحتُ أشعر بدبيب النملة ليلاً قبل أن أنام بربع ساعة. وأرى اليقين فيَّ ينمو كشجرة -- بل يتلوَّن مثل كرة صغيرة. إني أشعر بكل شيء، والأهم من ذلك كله أنني أشعر بوجودِك. وجودُكِ نعمة من الله، وهبنِيها بعد خمسة َ عشرَ عاماً من التيه والضياع. محاكم وزوجة وتراهات -- أصبحتُ لا آبَهُ بأيِّ منها. بل وأمقتُها جميعاً. ولو كنت أستطيع إلقاءها في القمامة وحرقَها لفعلت. (يقوم من مكانه ممسكاً يديها، فتقوم الحبيبة معه) أريدُكِ أنتِ. بجسمك وروحك وحسِّك وفتنتِكِ الباهرة. تعالـَي معي! اُنظري! (يجري بها إلى لوحة في أقصى اليسار، ينزع عن اللوحة غطاءها، فتظهر رسمة جميلة ملونة لوجه الحبيبة وجسمها الرشيق. تُبدي الحبيبة تفاجُؤها وفرحتها بصرخة غريبة.) رسمتُها أنا. بنفسي! استغرقت شهرين حتى أتممتُها.
الحبيبة: إنها رائعة حقاً.
أحمد: تعالـَي لأُريكِ الثانية! (يركض إلى اللوحة الثانية - في منتصف المسرح - ممسكاً يدها. يكشف الغطاء عن اللوحة فتظهر رسمة جيدة، أقل إتقاناً من سابِقَتِها.) ما رأيُكِ؟
الحبيبة: (مُجامِلة) إنها .. جميلة!
أحمد: أنتِ لم ترَيِ الثالثة بعد! تعالـيْ..! (يركضان)
الحبيبة: أحمد! لكن ...!
أحمد: (بتوتر غريب) انظُري! انظري!! (يكشف الغطاء عن اللوحة الثالثة. اللوحة تبدو غير مكتملة، غير واضحة المعالم، أو هي كذلك فعلاً. يسألها أحمد بحماس وتوتر) ما رأيكِ؟!
الحبيبة: (تقف مشدوهة ً معقودة اللسان، تنظر إلى أحمد ثم إلى اللوحة الثالثة، ثم تقول.) أحمد. لا أعرف ماذا أقو-- هل هناك أجمل منها؟
أحمد: بالتأكيد! بالتأكيد!! (يتوتر أحمد أكثر. يركضان - ممسكا معصمها - إلى اللوحة الأخيرة في أقصى اليمين. يزيل أحمد الغطاء عن لوحة سيئة جداً. لا ملامح، لا حياة، لا ألوان.) ما رأيكِ...؟!
الحبيبة: (تصمت طويلاً وهي تنظر إلى اللوحة الأخيرة ثم تنظر إلى أحمد بوجه لا تعابير فيه) إنها.. إنها سيئة جداً.
أحمد: (يُصدَمُ أحمد تماماً. لكن سرعان ما تتغير تعابير وجهه من التوتر إلى الغضب، وتتغير لغة جسده كذلك إلى غضب وحَيرة.) ماذا تقصدين؟
الحبيبة: أنا أعني ما أقول تماماً. إنها لوحة سيئة جداً، غيرُ مكتمِلة.
أحمد: لكنني فخور بها فخري بسابقاتها! أو أكثر!
الحبيبة: إنه رأيي الصريح.
أحمد: (ببعض التضايق) إذن لا تقوليه، لقد تعبت جداً حتى توصَّلْتُ إلى فكرة هذه اللوحة.
الحبيبة: لا تكن حساساً يا أحمد.
أحمد: أنا حساس؟!
الحبيبة: (محاولة تهدِئتَه) أعني لا تأخذ الأمرَ بجِدية هكذا.
أحمد: لا، لا. أنتِ تعنينَ ما تقولين. حساس (يفكر في الكلمة، ثم يقول بعصبية) ... حساس؟! إذا كنتِ أنتِ تنعتينني بكلمة ”حساس“ فمن سيفهمُني؟ ها؟! أخبريني؟
الحبيبة: أحمد اهدأ قليلاً، أنت لستَ طفلاً.
أحمد: لستُ طفلاً؟!
الحبيبة: هلَّا هدأتَ قليلاً يا أحمد! لا داعٍ للعصبية إطلاقاً...
أحمد: أتعرفين؟ لا أصدق أن كلاماً كهذا يخرج من فم مجرمة مثلِك.
الحبيبة: (تصمت طويلاً مذهولة تماماً، ريثما أحمد يذهب ليجلس على الكرسي وراء المكتب)  ماذا ... قُلت؟ أأنتَ تُعيِّرُني؟ لا، لا أصدق هذا.
أحمد: بل هي الحقيقة.
الحبيبة: أنا ذاهبة. أنت لا تحتاجُ مجرمة في حياتِك.
أحمد: (يُسرع ويوقِفُها ممسكاً معصمها، تحاول التفلُّتَ منه لكنه أقوى منها بكثير) ليس الأمر بهذه السهولة.
الحبيبة: (تنظر إليه بخوف شديد في عينيها ووجهها. تهمس من الرعب) دعني، دعني يا أحمد. (تصرخ) دعني!

(يمشي إليها ببطء ريثما هي تبتعد إلى الخلف. ثم تتعثر الحبيبة، لكنها تستمر بالابتعاد عن أحمد. يمد يده لها فتُبعِدُها بقوة. ينظران إلى بعضهما البعض طويلاً. ثم يمد يده لها مرة أخرى. تُلاحظ الحبيبة أنه لا مفر من أحمد، فتمد يدها أيضاً مُستسلمة، وتكاد تبكي. يساعدها أحمد على الوقوف ويضمها إليه بقوة.)

الحبيبة: (خائفة( إنني ... ضعيفة ... لا تقتُلني يا أحمد ... أرجوك ...
أحمد: لن أقتُلكِ.
الحبيبة: بل ستقتلُني... أنا متأكدة.
أحمد: لا. لن أفعل ذلك. سأبقى معكِ.
الحبيبة: وهذا ما سوف يقتلُني.
أحمد: اسمعيني جيداً. أنا لا أستطيع الاستغناء عــ ...
صوت القاضي: (غليظ جدا ونبرتُهُ حازمة) بل تستطيع...

(يتسمَّران في مكانيهما. ثم يلتفت أحمد إلى مكان الصوت -الجمهور-. تمشي الحبيبة ببطء إلى السرير طوال الحوار ما بين أحمد والقاضي، وعندما تصل إلى السرير تجلس بهدوء تام ثم يرتعش جسمها كله شيئاً فشيئاً، وهي تنظر إلى قدميها.)

صوت القاضي: تستطيع الاستغناء عنها.
أحمد: (محتاراً) مَن ... من أنتَ لتقول لي هذا؟ 
صوت القاضي: لا يهم من أنا. أنت تتصرف كالأطفال. ألا تلاحظ هذا؟
أحمد: هذا ليس من شأنك. لماذا لا يترُكني أحدٌ وشأني؟!
صوت القاضي: لأنك خالفْتَ القانون بأفعالكِ هذه.
أحمد: (يتقدم خطوتين إلى الجمهور، ويشير إلى الصوت) فليذهب القانون إلى الجحيم! وأنت كذلك!
صوت القاضي: لا تستطيع التخلص مني يا أحمد. ولن تستطيع ذلك. أنت مرهون يا أحمد. وتوترُك يدل على ذلك. عاجلاً أو آجلاً سيكتشف الشرطةُ الأمر. سيعرفون ما فعلتَهُ بعقل حبيبتِك. وسيكون العقاب وخيماً. وعندما تعود إلى المنزل لن تجد زوجتك ولا ابنتك ندى. بل ستجد فراغاً. ستجدُ نفسك كفأرٍ صغير مات أهله، بلا حول ولا قوة ... وحيداً كأتعسِ ما يكون.
أحمد: لن أخضع لقولِك. لا تحاول. أنت لا شيء! أنت مجرد صوت في خيالي ... لا حقيقةَ لك! إن كنت حقيقياً أرِني وجهك. لكنك مجرد صوتٍ بالٍ، بلا معنىً ولا قيمة. لن تستطيع التحكُّمَ بي!
صوت القاضي: أحمد! أيها القاضي أحمد.
أحمد: لستُ قاضياً! أنا إنسانٌ! إنسانٌ حُر!
صوت القاضي: لستَ حُراً.
أحمد: من أنتَ لكي تحكم عليَّ بالسجن.
صوت القاضي: ألستَ الآن في سجنٍ؟
أحمد: (يتفكر قليلا) ماذا؟ ...
صوت القاضي: لقد وقعتَ في حفرتكَ يا أحمد. من سينقذُك؟ لا القانون الذي درستَهُ ولا زوجتُك أو أصدقاؤكَ سينفعونك. ولن تنفعكَ حبيبتك، لقد أفقدْتَها عقلَها. (تتكرر الجملة التالية بالصدى) أنت وحدك فعلاً يا أحمد.
أحمد: (عندما يتلاشى الصدى) إنها ... إنها قضيتي كإنسان.
صوت القاضي: ماذا تعني؟
أحمد: (مع موسيقى بيانو حزينة) كان الفنُّ هو حياتي كلَّها في البداية ... كان شغفي به كل ما أملك. جربتُ كل شيء، قرأتُ في شبابي كتباً لا أحصي لها عدداً، كتبت الشعر، مثلتُ في عدة مسرحيات قبل تخرجي من الجامعة، ثم ... وقعت في غرام الرسم. أصبح إتقان اللوحات محور حياتي، وتطوير أسلوبي في الرسم أصبح هوَساً لدي. ولكن عندما قُبِلْتُ لدراسة القانون في إنجلترا اضطررتُ لترْكِ أحلامي ورائي. وعانيتُ من ذلك أشد العناء. حاولتُ العودة إلى مِصر، وأن أصبحَ رساماً ... مراراً. لكن لم أجد تقديراً من أحد. والدايَ الذان كانا سنداً لي لم يكونا راضِيَين عن حبي للفن ومحاولاتي التي باءت دائماً بالفشل... وعندما حصلتُ على تقدير عالٍ وصرتُ محامياً كنت خاوياً تماماً من المشاعر، إلا من حب زوجتي، رُقية. كانت كائناً رقيقاً كورقة تسقط من شجرة في الربيع ... ناعمةً كحريرِ شالِها. وجدتُ فيها بديلاً للفن نوعاً ما. لكنني بعد خمسة عَشْر عاماً من الزواج وجدتُ نفسي بعد ذلك الحلم -- أو الموقف الغريب الذي غير مجرى حياتي ... وجدْتُ نفسي قد عُدتُ إلى أيام شبابي. (هنا يهتز جسد الحبيبة بقوة) وجدْتُ حبيبتي. نعم وجدْتُها. ووجدْتُ نفسي التي تاهَتْ عني سنيناً في نفس الوقت. لم أكن مستعداً للاستغناء عن أيٍّ منهما. (يذهب إلى حبيبته التي ترتعش) رسمتُها. رسمتُها بكل ألوان الطيف، ورسمتُها كأنني بيكاسو عصري. نعم! رسمتُها لأنني عشقتُها وفهمتها منذُ أول نظرة. تلاقَتْ روحانا في فضاءٍ ما. أنا متأكد من ذلك. أليس كذلك حبيبتي؟ (تصدر الحبيبة أصواتاً غريبة غير مفهومة ريثما هي تهتز أكثر وأكثر وتضع يديها على أذنيها) حبيبتي؟ ألا تُجيبينَني؟
صوت القاضي: إنها مرهقة. ألا ترى ذلك؟
أحمد: لم أسألْكَ أنت! (إلى حبيبته) حبيبتي ... أجيبيني. ما بك؟ (يُمسك كتفيها) لماذا ترتجفين هكذا؟!
صوت القاضي: إنها خائفة يا أحمد.
أحمد: (يتجه أحمد إلى جهة الصوت) أأنتَ ... أأنتَ السبب في ما يحدث لها؟
صوت القاضي: يمكنك قول ذلك.
أحمد: (بصوت خافت، غاضباً) أيها اللعين... (صارخاً) أنت ملعون!!
صوت القاضي: قل ما تشاء. لكنك لن تستطيع إنقاذها. إلا إذا ضحيتَ بأغلى ما لديك.
أحمد: (يصمت قليلاً ليفكر، بهدوء) أغلى ما لديّ...؟ وما ذاك؟
صوت القاضي: ألا تعرفُ ما هو أغلى ما تملك؟ إنهُ إحساسُك يا أحمد. إذا ضحيتَ بإحساسك ... ستنجو حبيبتُك. 
أحمد: ماذا...؟
صوت القاضي: تماماً كما سمعت. عليك أن تختار ما بين حبيبتِك وإحساسك الذي تُقدِّسُه.

(يصمت أحمد ريثما يُسمع صوت موسيقى هندية غريبة من بعيد، وحبيبة أحمد تترنح وتتألم بأصوات غريبة.)

صوت القاضي: ها؟ ماذا قررت يا أحمد؟ أسرع. فالوقتُ ليس بصالحك.
(ينظر أحمد إلى حبيبته ثم إلى مكان الصوت مرتين. ثم يفرِدُ ذراعيه واقفاً في منتصف المسرح ويقول)
أحمد: (ببطء) اقتلِعْ مني إحساسي.
صوت القاضي: أأنت متأكد؟
أحمد: (يبتلع ريقه، بعد صمت) نعم. أنا متأكد.

(تتسارع الموسيقى الهندية ويعلو صوتُها بشكل ملحوظ، وتُصاحبها أصوات آلات موسيقية أخرى منها طبول وأبواق. يترنح أحمد في أنحاء المسرح كأنه يرقص رقصة غريبة جداً. تصل الموسيقى إلى كريشندو ثم يسقط أحمد على الأرض. تتوقف الحبيبة عن الترنح ببطء شديد. ثم تستفيق من حالتها وتركض إلى حيث أحمد مُلقىً على الأرض وتُسندُه بذراعها.)

الحبيبة: (تصرخ مراراً) أحمد؟ أحمد!! (تظنه قد مات) لااااا!! (تبكي الحبيبة قليلاً ثم يفتح أحمد عينيه، فتبتسم الحبيبة) أحمد..! ظننتُك قد مِت ... أحمد؟ ما بك؟...

(لا يجيبها أحمد. يقوم من مكانه كأن شيئاً لم يكن. ينظر حوله. تنظر إليه الحبيبة بتعجُّب. يمشي أحمد إلى اللوحة الرابعة - على يمينه - التي لم تُعجَب بها الحبيبة إطلاقاً ويرميها. تصرخ الحبيبة [أحمد، لا!] عدة مرات ولكنه يفعل ذات الشيء باللوحة الثالثة. تحاول الحبيبة إيقافه دون جدوى. تصرخ الحبيبة: [توقف يا أحمد! ماذا تفعل؟! أحمد!] عندما يرمي أحمد الثانية ويكسر الأولى. عندما يكسر أحمد اللوحة الأولى تنهار حبيبته وتبكي بحُرقة تحت ضوءٍ مُسلَّطٍ عليها ريثما يخرج أحمد من غرفة الفندق.)

ستار

ليست هناك تعليقات :