شيخٌ .. عاق (نثر: تميم صائب)





الطيّبةُ ..
ذاتُ النهرِ الطويلِ
المنسدلِ على كتفيها
تنامُ على يدَيْ قمرٍ
يتوزّع كالرغيفِ
على " أحواش " بيوتِها
الطبيعيّةُ ..
كغابةٍ لم تُقتطع بعدُ أشجارُها
والهادئةُ
كصحراءٍ بُحَّ عواءُ ذئابِها
المسكينةُ
التي تخجل ممّا يسمونه حضارة
وتشيح بوجهها
عن عُري المُدن الفاضح
كأنّها تغطّيه بإشاحتها
يلعبُ أطفالُها " الشكّام "
على رملٍ لا يجرؤ
على حرق أقدامهم المرفوعة
والتي يصيح صِبْيتُها بفرحٍ :
( قينة .. قينة
طقّاقة الحجرينة
باسمي سميتو
ببطن امّي حطيتو )
ولا يعرفون معاني كلمات ألعابهم
ولا يهمهم أن يعرفوا
الغشيمةُ
إلى حدّ أنّها تخلع كحلَها من عينيها
لتمنحه للغرباء
وتركن أحمرَ شفاهِها على الرف
لتسمح للعابرين باستعارته
والتي تفضح نفسها
أمام صحافي محنّك يحاورها
فتحكي له عن قصص عشقها البائس
وعشّاقِها الغادرين ..
ولستُ أنا آخرَهم
المعتادةُ
على المكر بقرويّيها
فتشدّ لهم خيطاً وهمياً
بين طرفَي جسرها العتيق
وتطلب منهم أن ينحنوا قليلاً
كي لا يقطعوه
ثم تركلهم على أقفيتهم
هي التي لا تردّ على الربيع المعتزّ بقدّاحِهِ
إذ يطرق بابَها
لأنّها تكون منشغلةً
بنفض الغبارِ عن كاهلِها
ولملمة ما تبعثرَ منها
في شتائها المليء بليلِ الرهبة
ولا تردّ على الخريف المبلل بالندى
إذ يقف كعصفورٍ على نافذتها
لأنّها تطيل فرْكَ عينيها
وهي تصحو من صيفها
المشتعلِ بشمس الملل
أستغلّ معرفتي بها
لأتّهمها أمام نفسي
وأفطن إلى ثقتِها بي
فأدافع عنها
طاحَ حظي !
لقد نسيتُ أنّها
كانت تسقيني من " مزمّلتِها "
وها أنذا أسقيها من مُهْلي
آهٍ منها !
بسيطةٌ إلى حدّ أنّها
تعطيني موافقتها
حين أستأذن أن أشتُمَها
ولا تخرج عن طورِها
كباقي المدن الذابلة..
ساذجةٌ أيضاً
لأنها تبكي حين أقرأ عليها
مرثيّتي لنفسي
وأفصِحُ أنّها قاتلتي
سأستجدي منها العفو عنّي
أنا المقتول على يديها
والقاتل لها
وسأبصم بالعشرة
على أنني شيخٌ عاق
قبلْتُها حين كنتُ طفلاً كأمّ
ولم أقبلْها حين كبرتُ كبنتٍ لي !
آهٍ منها !
رضيتْ ببساطةٍ
أن أكتبَ شاهدة قبرها
قبل أن أطلق الرصاصَ عليها .. برحيلي
أذكرها الآن
كما لو أنها تجلس قُبالتي
لتأسرني بفتنتها
وهي تلفّ رِجلاً على رِجل
أذكرها الآن
كما لو أنها لم تودّعني
عند " دلّتها "
حين مضيتُ إلى غبائي
أذكرها الآن
كما لو أنني أعتذر لها
عن كلّ ما فعلته بحقّها
وأنا أستعيدها في الذاكرة
واحسرتاه !
كم من القُبلات أهدرتُ !
وكم من القلوب
ستستنكر عليّ رحيلي المفاجئ عنها
المدينةُ المسكينة
الريفيّة المتحضرة
الغافية على ذراع فراتٍ لا ينضب
والتي يصبح " الزلّ " فيها
قياثيرَ تغنّي ليماماتها
ذات القلوب الجريحة
المدينة التي عرفتم - لاريب - اسمها
ربّتني صغيراً
وخذلتُها في مشيبِها
فتركتُها لمأوى العجزة

تشتُم عقوقي !!!!!

هناك تعليق واحد :