(حكاية أمي) شعر: تميم صائب





مرّتْ على يدِها السنون فرجّفتْها
مثل عصفورٍ يبلّلُه الشتاءُّ..
كأنّ تِسعَ ضفائرٍ في مشطِها
جعلتْ بها حين التذكّر غصّةً
لم يبقَ من أحدٍ تمشّطُهُ
انتثرْنا كالسنونو في سماواتٍ
بعيداً عن يديها
لم تعد تدري
على مَن تذرف الدمعَ الهَتونَ من العيونِ..
تقوم ليلاً من سريرِ شتائها
حتّى تغطّي في الخَيال صغارَها
وتصبّ شاياً
عَشرَ (كاساتٍ)، فتشربها تِباعاً
ربّما حلمتْ بأنّا نحن نشربها وإيّاها
ونشرب من حَكاياها
خيالاً فائضاً عن حاجةِ العقل الصغيرِ
وكم نضجّ إذا أبي في لحظةٍ نادى:
" مفيدةُ.. يا مفيدةُ "
تترك الكلماتِ واقفةً على آذانِنا
وتهبّ مسرعةً إليـــهْ
وتقول أمّي ما تقول عن العقوقِ
لكي تجمِّعَنا قريباً من جناحَيْ حبّها
وتزورها شمسُ الصباحِ
لتحتسي معها فناجينَ الهدوءِ
جوارَ كمّثرى الحديقةِ
ثمّ تطعِم من طعامِ الأمسِ قطّاً
مرّ محتاجاً إلى لمساتِها
وتمدّ خرطومَ الحياةِ لتشربَ الأزهارُ
طِيبَ حنانِها
حتى إذا انتبهتْ إلى فَيضانِهِ
ضحكتْ قليلاً من شرودِ خيالِها
وأتتْ لتوقظَنا بصوتٍ دافئٍ كالحلمِ
خشيةَ أن يضيعَ الحلمُ منّا
آهِ يا أمّاهُ
كابوسٌ طويلٌ إذ كبرنا
ليتنا أمّاه لم نكبرْ ولم نرحلْ
إلى وجَعٍ يصفّدُنا لديــــهْ

وأظلّ أذكر بيتَنا البلديَّ في الحيّ القديمِ
وكيف كان الحبّ يزرع في تراب فِنائهِ
زهرَ التوحّدِ فيهِ..
كيف تقوم أمّي في صباحاتِ الخريفِ
لتكنسَ الورقَ المودّعَ أمّهِ
وترشّ أرضَ الدّارِ..
تنثر حفنةً من (برغُلٍ)
ليزورَها سِربُ الحَمامِ
فتغتذي هي من جَمالِ الكائنِ السحريِّ..
سبحانَ الذي أضفى على الريش البَهاءَ
       بريشةٍ في إصبعيــــهْ

والنهرُ كان على مسافةِ خطوتينِ
ولا يُخيف سوى قلوبِ الأمّهاتِ
على صغارٍ يسبحونَ..
وكنتِ تنتظرين عودتَنا على قلقٍ
فنرجع لوَّحتْنا الشمسُ..
أحرق أخمصَ القدمين إسفلتُ الطريقِ..
ومتعبين وضاحكينَ
نلوذ منكِ إليكِ..
كم من ذكرياتٍ توجع القلبَ الذي يدري
بأنْ ما فات فاتَ
ولا سبيلَ إلى الرجوعِ لراحَتيــــهْ
فالآن فاض القهرُ..
فاض الدمعُ..
فاض دمٌ على شُرُفاتِنا

والنهرُ يبكي ضفّتيــــهْ

ليست هناك تعليقات :