الأمية

لم تكن الأمية أو التخلف نزعة يمكن بها تصنيف الأرض العربية ، وهي التي شهدت ثورات علمية وأدبية على مدى عصور تجاوزت فيها العالمية، بل ووصلت تراجمها ومناهج تدريسها الجامعات العالمية إلى يومنا هذا، بينما كانت أوروبا ترضخ تحت التعصب الكنيسي في العصور الوسطى.
بيد أن ما شهدته الرقعة العربية بامتدادها الجغرافي في الشقين الإفريقي والأسيوي، ووحدة الظروف التي هيأت الأسباب للهيمنة الاستعمارية عليها، والتي يمكن أن نعزوها إلى: موقعها الجغرافي المتوسط المسيطر على طرق التجارة العالمية القديمة والحديثة، والثروات الطبيعية ناهيك عن القوة التشغيلية الرخيصة ولا يكننا إغفال التنازع القبلي التفرقة الطائفية بين القبائل الحاكمة.
يكمن الهدف الاستعماري في طمس الهوية العربية والإسلامية، لضمان استمرارية وجوده، وذلك بتجهيل شعوبه ومحاربتهم في لغتهم، لتجريدهم من مسمى الانتماء، ولا بد من أن نعي أن قيادة الحركات التحررية كانت من المثقفين والمتعلمين من العرب الأحرار..
ولا يمكننا أن نغض الطرف عما يعانيه القطاع التعليمي من وهن، ليس على مستوى الدولة الواحدة بل تعداه ليشمل الوطن العربي، وقد أصدرت الأمم المتحدة تقريرًا عن الأمية ومستوى التعليم في الوطن العربي للعام 2013، في أن 27 % من إجمالي سكَّان الوطن العربي أُميِّين؛ أي إن عددهم يبلغ من 70 إلى 100 مليون أُمِّي، ويُظهِر التقرير أن النسبة قد قلَّت بالمقارنة بعام 2005 الذي كانت نسبة الأميَّة فيه 35 % ، وأثبت التقريرُ أن نسبة الأمية بين الإناث تمثِّلُ أضعاف النسبة بين الذكور بنسبة 60 إلى 80 % من إجمالي عدد الأُميِّين، وأكَّد التقرير أن نسبةَ الأمية في الوطن العربي إذا سارت على نفسِ هذا المعدَّل فنحن نحتاج إلى ما يقرب من 40 عامًا؛ لكي تختفي الأمية في بلادنا، وأكَّد تقريرُ الرصد العالمي للتعليم أن هناك حوالي 6.5 مليون طفل في العالَم العربي غير ملتحقين بالتعليم، وهناك نسبة من 7 إلى 20 % من الملتحقين بالتعليم يهرُبون منه بعد المراحل الأولى، وزد على ذلك نسب المرغمين من الأطفال على ترك ليس مدارسهم فحسب بل أراضيهم بسبب الحروب والنزاعات سواء الطائفية أو العرقية أو الإرهابية.
وقد أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، إحصاءاتٍ تُؤكِّدُ أن الدول العربية تُنفِقُ أقل من 2٪ فقط من ناتجِها المحلي على التعليم والبحث العلمي، وهذا يعد رقمًا ضئيلاً جدًّا بجانب ما تنفقه الدول المتقدمة من حوالي 10٪، وتُؤكِّد هذه الأرقام الفجوةَ الكبيرة بين الدول العربية والأوروبية، ويظهر أثرُ ذلك في انخفاض نسبة التعليم وجودته في الدول العربية، و تشير معظم التقارير الصادرة عن الجهات الدولية المعنية إلى تدني مستويات المخرجات التعليمية في الوطن العربي، مقارنة بالدول النامية الأخرى في العالم.
ومن ذلك التقرير الذي صدر مؤخراً عن البنك الدولي والذي حذَّر فيه من تخلف التعليم في العالم العربي، ومن أهم ما جاء فيه ما يلي:
1.  مستوي التعليم في الوطن العربي متخلف بالمقارنة بالمناطق الأخرى في العالم.
2.  يحتاج نظام التعليم العربي إلي إصلاحات عاجلة لمواجهة مشكلة البطالة وغيرها من التحديات الاقتصادية.
3. على الرغم من أن معظم الأطفال في العديد من الدول العربية استطاع الاستفادة من التعليم الإلزامي، وتقلصت الفجوة بين تعليم الجنسين؛ إلا أن الدول العربية ما زالت متخلفة عن كثير من الدول النامية في هذا المجال.
4.  خصصت الدول العربية 5 % فقط من إجمالي الناتج المحلي، و 20 % من إجمالي الإنفاق الحكومي على التعليم خلال الأربعين سنة الماضية.
5.  توجد فجوات كبيرة بين ما حققته الأنظمة التعليمية في العالم العربي، وبين ما تحتاجه المنطقة في عملية التنمية الاقتصادية.
6.  وأشار التقرير إلى أن أحد أسباب ضعف العلاقة بين التعليم وضعف النمو الاقتصادي هو انخفاض مستوى التعليم بشكل كبير.
7.  وذكر التقرير أنه برغم كل الجهود العربية للقضاء على الأمية، مازال معدل الأمية في الوطن العربي يماثل المعدل في دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
8.  وخلص التقرير إلى أن جميع البلدان العربية تحتاج إلى مسارات جديدة في إصلاح أنظمتها التعليمية؛ من أجل الحوافز والمساءلة العامة، إلى جانب اتخاذ الإجراءات الفاعلة لتحسين مستويات المخرجات التعليمية إلى سوق العمل.

وعند التطرق إلى قضية الضعف التعليمي، فإنه لا يمكن تجريده كقضية أحادية متعلقة بالسياسة الموجهة له، بل يتعداه ليكون منظومة متكاملة من المحاور: بدءا من السياسة التعليمية، بما فيها من النظم التعليمية والمناهج ونوعيتها والطرق التدريسية و الوسائط التكنولوجية، ناهيك عن البرامج التدريبية، وما يتعلق في البناء المدرسي وتكامليته وخصوصيته والغرفة الصفية لخدم الهدف التربوي، ويمكن أن نربط به نسب التمويل أو الحصة المخصصة له لغايات التطوير والبحث العلمي..
المحور الثاني: المعلم وما يتعلق به من كفاءة تربوية ويجب أن نفرق بين الكفاءة التربوية وبين التفوق الأكاديمي، الذي ليس بالضرورة داعما لهذه الكفاءة، وما يتضمنه من قدرة على التواصل المعرفي والذهني، ومدى قابلية المعلم على التعايش والتأقلم والمرونة في الحجرة الصفية وما يمكن أن يتعلق فيه من ممارسات كالعنف اللفظي أو الجسدي ضد الطالب..
الأسرة وهي التربة التي نشأ فيها الطالب، ومدى دعمها للعملية التربوية ومتابعتها، ولا يمكننا أن نقصيها عن العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعوامل أخرى قهرية متعلقة بالتهجير.
الطالب وهو إن كان المحور الرابع لكننا يمكن أن نعتبره، صلب العملية التربوية التي تتداخل فيها جميع هذه المحاور معا،  في صياغته وجبله كعجينة مرنة يمكن تشكيلها وصقلها وقولبتها وتوجيهها إلى حصيلة إيجابية أو سلبية في المجتمع، الذي يعد الفرد فيه أهم ركيزة قادرة على الإعمار والتطوير والرقي بكل مستوياته، أو تلك التي يمكنها كمحصلة سلبية تحطيم مقدراته..
عند النظر في هذه المحاور مجتمعة، نجد أن القاسم المشترك يكمن في أمرين: التمويل والإرادة السياسية ..
إذ أن العنصر المالي يمكن أن يعد كأهم ركيزة داعمة لأي عملية تنموية كانت على كافة المستويات، وبما أن الدراسات العالمية أقرت بضعف ما ينفق على العملية التعليمة إلى نسبة تتراوح بين 2 إلى 5% من مجمل الموازنة العامة للدولة، فهذا يقودنا بالفعل إلى ضعف الإرادة السياسية ذاتها في الرقي بالعملية التعليمية بكافة مراحلها، والوقوف على أزماتها بدراسات تؤخذ نتائجها بعين الاعتبار، لأنها ببساطة تراهن على الإنسان وهو أصل أي معادلة إنتاجية..
إذن ما يمكننا أن نفنده في الركن الأول وهو السياسة التعليمية التي تتضمن ضعفا في الركيزة التعليمية، والتي تتسم بالجمود والرتابة الذهنية والفصل اللاإرادي للمضمون النصي والواقع الفعلي، قس عليه الطرائق التعليمية البدائية المستخدمة والتي هي فعليا موائمة للمناهج المدرسية القائمة على التلقين والحفظ، وعدم القدرة على تطوير المناهج مع ضعف التطبيق للأساليب التربوية الحديثة التي تتخذ من الحاسوب، المختبرات، عرض البيانات، الأساليب الحوارية والعصف الذهني وطرق التقييم، التي لا يمكن تطبيقها في الحجرة الصفية الضعيفة المقدرات وبالدائية التصميم، والتي تكدس في نطاقها الصفي أضعاف ما يمكن أن تتحمله أي منظومة تعليمية ناجحة، وهذا يقاس عل البناء المدرسي الذي لا يتضمن أي من أوجه الأمان أو أولويات البنية التحتية، وهذا ينصب بدوره على ضعف المستوى التدريبي للمعلم، ومن هنا نجد أنه قد ينعدم الهدف التربوي في أي نص من هذه النصوص في إيجاد جيل متعلم ..
أما الركن الثاني المتعلق بالمعلم، ويمكن أن نفصل فيه بين أمرين: هو أن هذا المعلم هو نتاج هذه السلسة التربوية الضعيفة والتي تمكنه من تحصيل سهل لشهادة جامعية، إما عن طريق الواسطة أو شرائها من إحدى الدول التي تتخذ من ذلك دخلا في ميزانها التجاري، أو معدلات منخفضة نتيجة نوعية الجامعات المانحة للشهادة العليا ك الجامعات الخاصة مثلا، ويمكننا أن نستثني في نقاشنا المعلم الذي كانت جميع العوامل مساهمة في دعم تحصيله العلمي العادل، وأن نركز على القدرة التربوية لدى المعلم الضعيف الذي تنعدم لديه أسس الكفاءة المطلوبة في الحجرة الصفية، وليس من الصعوبة الوقوف على علاجه في سياسة حازمة لامتحان كفاءة متعدد المستويات، والمقترن بخطط زمنية مما يشكل نوعا من التحدي لدى المعلم في رفع كفاءته وقدرته التفاعلية، ويجب أن يتزامن مع هكذا إجراء عقد لدورات تدريبية لا تتعلق بالعملية التربوية فحسب بل بالسلوك التربوي وبالإرتقاء الذهني والنفسي لديه...
الأسرة أكثر هذه المحاور تعقيدا، لعدم إمكانية فصلها التام عن مجموع العوامل المشكلة لها أو المؤثرة فيها أو الموجهة لها في بيئة ديناميكية، ولكن على اعتبار أن باقي العوامل ثابتة وجدلا عادلة إلى حد معقول، فإنه يمكن أن إلى بيئة أسرية تؤمن البيئة الصالحة والداعمة والموجهة للطالب ..
أما الطالب فهو حصيلة نجاح هذه المحاور معا مدمجة مع مؤسسات المجتمع المدني، الذي يمكن أن يشكل بحد ذاته قوة ضاغطة على السياسات الحكومية المختلفة، بل قد يتعداها إلى حفظ المنتج من الانحلال الأخلاقي أو أي شكل من أشكال العنف، الذي يمكن أن يمارس من قبله..
ومن هذا المنظور نجد أنه يمكننا تدعيم الركيزة التعليمية الأولى في المراحل المبكرة، بتقليص دور المدارس المتاجرة بالطفل وتغير نمطية اعتباره سلعة، ودعم المدارس التي تحترم الهوية التعليمية وصولا إلى المرحلة الجامعية، التي باتت في الآونة الأخيرة تعاني من مسمى العنف الجامعي، ولم تكن حصيلة ما ترفد به السوق المحلي بالمستوى المطلوب، وتباين الدور التوعوي مع تدني مستويات المسؤولية لضبابية الهدف التربوي في مراحله الأولى....
والأردن كإحدى الدول العربية يعاني من ضعف المستويات التعليمية الأولى، وازدياد نسب التسرب من المدرسة والعنف الجامعي..
 يجد في خطوات واعية للوقوف على مسبباتها وليس الاكتفاء بذلك، بل بإيجاد منهجية متكاملة في حلها..
 يمكننا إذن أن نخلص إلى أن السياسة التعليمية قد أخذت دورها الايجابي في تبني المشكلة وحلها، وبدأت بالفعل في دراسة المناهج المدرسية العقيمة وبحث سبل تطويرها، والتعاون مع القطاع الخاص في توفير التمويل اللازم للقضاء على مشكلة الأبنية المدرسية والحجرة الصفية وإيجاد مذكرات تفاهم مع المنظمات العالمية التي تفعل دور الطالب في المشاركة في صنع القرار، وترسيخ مفهوم التعاون وتنمية مفهوم الهدف والتأكيد على أهمية امتحانات الكفاءة للمعلمين والبرامج التدريبية، والذي يتزامن مع دعم الوضع الاجتماعي للمعلم والمستوى المعيشي له، وإصلاح نظام الحوافز والضمان الاجتماعي وتوفير النقابات الداعمة له ولحقوقه..

إن اعترافنا بوجود قضية الضعف التعليمي لا يعني بالمقابل عدم إمكانية إيجاد الحلول لها، ولكن يبقى آن نؤكد على أهمية الإرادة السياسية والديمومة الإصلاحية والمتابعة والقدرة على الاستمرارية، حتى نصل إلى منظومة تعليمية متكاملة تؤمن بأهمية التعليم كأساس في أي عملية إصلاحية...

ليست هناك تعليقات :